تأريخ فكر السيد موسى الصدر
لينا وهب • ٣١ أغسطس ٢٠٢٣
موسى الصدر هو ذلك الإمام الذي غيبه الضالون لإقصاء فكره عن تقرير المصير في شرق أوسطنا العربي الحرّ. فالسيد موسى الصدر، يمثل حالة الوعي التي شكلت حركة مقاومة لا تنتهي ضد الفساد والظلم والجهل والعنصرية أثمرت جيل مقاوم واعٍ.
ولتأريخ فكر السيد موسى الصدر لا بد من استذكار الندوة التي نظمها كل من المنتدى الاعلام العربي، ومعهد الدراسات الدولية وذلك تحت عنوان: "قراءة في فكر السيد موسى الصدر"في مساء 30 أيلول 2020 بإدارة كلٌّ من الدكتور علي عز الدين ورئيسة تحرير موقع لبنان الحدث الأستاذة لينا وهب، والتي شارك فيها الحاج حسن قبلان عضو المجلس السياسي في حركة أمل بمداخلة قيمة، والتي أغناها الباحث والأستاذ الجامعي الدكتور حسان الزين بإضاءات من فكر السيد موسى الصدر كصرح إنساني عظيم، مجيباً عن عدد كبير من الأسئلة النوعية لنخبة من المفكرين والمثقفين،
فكر السيد موسى الصدر كما يشرحه الحاج حسن قبلان عضو المجلس السياسي في حركة أمل
إن الحديث عن السيد موسى الصدر هو الحديث عن الشخصية الأبرز في تاريخ لبنان المعاصر. فنحن نتكلم عن رجل استثنائي بكل ما تعنيه الكلمة من معنى إذ أنه فعلاً يصح وبموضوعية كاملة أن يؤرخ للطائفة الإسلامية الشيعية في لبنان ما قبل وما بعد موسى الصدر.
وكنت قد انكببت طويلاً بعمر مديد على الاطلاع على الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لشيعة لبنان في جبل عامل والبقاع وجبل لبنان قبل قدوم الصدر وأقمت مقارنة بالذي حصل بعد مجيئه إلى لبنان عام 1959 بعد ارتقاء العلامة الكبير السيد عبد الحسين شرف الدين إلى بارئه.
أولاً السيد موسى الصدر بحسب مقولة السيد محمد حسين فضل الله هو " أبو الحالة الشيعة في لبنان" على قاعدة أن السيد فضل الله هو "أبو الحالة الإسلامية"، نحن نتكلم عن عالم دين استطاع بفترة قياسية لم تتجاوز ال17 عاماً من السنين أن ينشئ معماراً تغييرياً وتحولاً بنيوياً واضحاً في الحيز الاجتماعي الذي تحرك به وفي الفضاء المذهبي والطائفي والديني والاجتماعي للجماعة الشيعية التي شاءت الأقدار أن تكون في البقاع والجنوب وجبل عامل وجبل لبنان.
خلال 1200 عام من تاريخ الشيعة اللبنانيين أو شيعة جبل عامل أو شيعة بلاد الشام، كما كان يقول العلامة الكبير الشيخ محمد مهدي شمس الدين أن الامام موسى الصدر أطلق أول حالة تنظيمية ينخرط فيها شيعة البقاع وجبل عامل والشمال وجبل لبنان في إطار مشروع سياسي ثقافي عقائدي مطلبي إصلاحي تغييري واحد إذ قل ما شهد تاريخ الشيعة اللبنانيين محطات اجتماع ولقاء، باستثناء بعض المحطات النادرة كتلك الفترات التي كان يذهب فيها آل حرفوش إلى جبل عامل في الأزمات لكي يقفوا بجانب العامليين في بعض المحطات والمواقف ولكن السياق العام كان أن الجغرافيا والشتات والفرقة هي التي كانت الحاكمة في العلاقات البينية بين كل هذا الشتات الشيعي فجاء الامام الصدر ووحد كل هؤلاء وجمعهم في مشروع واحد ولم يميز منطقة على أخرى ولم يعتبر ولم يهتم لقضية العدد والحضور السياسي والفائدة الانتخابية والنيابية وما شابه. كان في الكورة يتعامل مع نهران وبلاد جبيل ورشكيدة في البترون وقرى البقاع الغربي على السوية مع قرى جبل عامل وبعلبك الهرمل.
ثانياً أطلق الامام الصدر وعياً هوياتياً في هذا المجموع الشيعي الذي كان هائماً بين هويات متناثرة متنازعة متناقضة وبين مشاريع سياسية وإيديولوجية وعقائدية لطالما تخلى تالياً عنها أصحابها، كان بستاناً سائباً كل يعمل على مد اليد إليه ويأخذ منه ما يشاء. فأطلق الامام الصدر هذه الفكرة اللبنانية وعمّق هذا الانتماء اللبناني الكياني باعتبار لبنان وطن نهائي لجميع أبناءه، لبنان الكيان المنفتح على قضايا العالم العربي والأمة العربية والملتزم التزاماً واضحاً في القضية الفلسطينية. لكن ثبّت وأبّد ارتباط الشيعة اللبنانيين بهذا الوطن وهم منذ عام 1948 من الجنوب والبقاع من محمد زغيب شهيد المالكية وحتى كل الشهداء وقفت هذه الجماعة التي بعث فيها السيد الصدر هذه الديناميكية سداً منيعاً حماية للبنان (لبنان المصلحة والاجتماع والدور والوظيفة والرسالة) في مواجهة التنمير الصهيوني منذ عام 1948 وحتى اليوم. شكلت هذه الجماعة التي أهملها النظام السياسي في لبنان وقبله الفرنسي وقبله العثماني التركي المملوكي، هذه الجماعة التي أهملت حولها الامام إلى رأس الحربة في الدفاع عن لبنان في مواجهة كل التحديات.
هذا الامام العظيم الذي بعث هذا الكم من الوعي في الهوية والربط العقائدي في الإرث الكربلائي الحسيني وأخرج الجماعة الشيعية من فكرة التهميش والدونية والمظلومية التاريخية إلى واقع الفعل والمبادرة والتحفيز.
وأنا أستطيع أن أقول أنه أول عالم دين في الوسط الإسلامي الشيعي برمته قد سيّر النص الكربلائي والفكرة الكربلائية وأتى بها من متون الكتب والتاريخ وجعلها مادة تحريضية تحفيزية تغييرية في الواقع. وكل من جعل كربلاء والأفكار الكربلائية مادة في صياغة مشروع سياسي أتى بعد الامام موسى الصدر. هو أول من قال "دوري محدد من الله ومن أجدادي علي والحسين، هو الذي قال أمل إرثها في ثورتك يا وارث الأنبياء وهو الذي قال نحن أحفاد الحسين وورثة المسيح. الإمام الصدر أطلق كربلاء من عقال البكائية والفجائعية عندما قال أنه لا يعترف بالحسينيات التي لا تخرّج ثواراً وأبطالاً وجعل كربلاء بياناً سياسياً، كتاباً حزبياً، نضالياً، ثورياً. وهو الذي أكدّ على أننا نحن بحاجة إلى ثورة إرثها من ميراثنا من تاريخنا، هذا الربط بين شيعة لبنان وهذا العمق الكربلائي جعلهم ممتلئين مشبعين يشعرون بهذا البهاء بهاء الانتماء والزهو على قدم السوية مع كل المكونات.
ثالثاً بإطلاقه لهذه الحركة المطلبية الكبيرة وهي كانت حركة مطلبية مركبة بالموضوع الديني المذهبي أو الطائفي و الموضوع المناطقي لأنه اكتشف أن هذا الحرمان مركب. صحيح آنذاك كان جل هذا الحرمان يقع على كاهل الطائفة الشيعية ولكن أيضاً الإمام الصدر أيقن أن هناك مناطق محرومة بعكار وجبيل وإقليم الخروب ومناطق مسيحية أيضاً غير شيعية. اكتشف الامام الصدر أن هذا التناقض الاجتماعي والطبقي داخل لبنان سيعمل على تفجيره وهو أكد ذلك أيضاً حينما قال اعدلوا قبل أن تبحثوا عن وطنكم في المقابر أو مزابل التاريخ. اكتشف باكراً أن العدالة الاجتماعية هي عامل حاسم وثابت في استقرار لبنان.
رابعاً نظّر الامام الصدر لدور لبنان الحضاري باعتباره الساحة الوحيدة التي يجتمع فيها مسلمون ومسيحيون ويخرجون ويصنعون نظاماً سياسياً يديرون به شؤونهم على علاته وعلى وهنه وأزماته، لكن كانت بنظره تجربة تستحق الحماية والصيانة والعمل بشكل دائم على دفعها إلى الأمام وبالتالي إلى تطويرها.
الامام الصدر كان رؤيوياً واستراتيجياً في ملف الصراع مع العدو الإسرائيلي عندما نظّر باكراً بضرورة قيام مقاومة استباقية قبل أن تحتل إسرائيل أراضي جبل عامل وجنوب لبنان ويتشرد الجنوبيون كما الفلسطينيين، كان يعيش عقدة فلسطين وبالتالي قال أن لم أصبر حتى تحتل بلادي لكي أطلق مقاومة، فخلق ما يمكن تسميته بالمقاومة الاستباقية وكان سباقاً عبر هذا العقل الوقاد الشهيد الدكتور مصطفى شمران بتأسيس الخلايا الأولى والطليعية لأفواج المقاومة اللبنانية أمل وأرسى بالتالي أن اللبنانيون هم مسؤولون عن تحرير بلادهم وحفظها وصونها وليس عبر الالتحاق بهذا الجيش العربي أو ذاك أو هذا الفصيل الفلسطيني أو ذاك. كان يؤمن بأن قضية الحفاظ على الجنوب هي قضية أبناءه أولاً وهي قضية الوطن بكل مؤسساته ومفرداته وتشكيلاته.
الامام الصدر بإمكانيات جداً جداً ضعيفة وضئيلة عبر مجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الذي كان له الدور الحاسم والذي لا يناقش ولا يجادل في قيامه وتأسيسه، جعل من هذا المجلس منبراً لكل قضايا المحرومين والمظلومين في هذا العالم. وسريعاً استطاع أن يقيم شبكة هائلة من العلاقات الداخلية والإقليمية والدولية وسريعاً أصبح اسماً وعلماً في كل المنتديات الفكرية والدينية والثقافية (في الأزهر وفي الجزائر وفي المانيا الغربية آنذاك وفي فرنسا وبكستان مع المرحوم ذوالفقار علي بوتو، وفي مؤتمرات علماء الدين المناضلين من أجل الحرية). وهو الإمام الذي جعل من هذا المجلس ملجأً وكهفاً لحماية الثوار والمعارضين الإيرانيين على مختلف تشكبلاتهم. وهو الذي أرسى، كما يقول باتريك سيل في كتابه عن رئيس حافظ الأسد، المداميك الأولى للعلاقات الإيرانية- السورية وأمّن لكل فصائل المعارضة الإيرانية كل وسائل الحركة والحرية في غطاء رسمي وجوازات سفر سورية وغيرها الكثير. جذر العلاقات السورية- الإيرانية وضعه الامام السيد موسى الصدر ، الامام الذي كان يحمل هم العراق والمظلوميات التي كانت تقع على الشعب العراقي، وهو الذي كان يراسل الرئيس جمال عبد الناصر والولايات الأمم المتحدة وكل المواقع من أجل مظلومية الشعب العراقي. هو الذي ذهب إلى الفاتيكان من أجل حمل قضية الامام الخميني والمظلومية الواقعة عليه من قبل نظام الشاه. أعطى الإمام الصدر لهذه المجموعة الشيعية التي كانت على هامش الحدث الوطني والإقليمي والقومي بعد هائل باعتبارها طائفة فاعلة ذات جذور ذات مدايات وعلاقات في محيط أوسع.
اليوم كل ما نحن به بكل هذا الحضور السياسي بكل هذه المقاومة بتنويعاتها بأسمائها بالاسم الأبرز فيها بالتشكيل الأبرز فيها اليوم حزب الله وحركة أمل، كل هذا الجيل من الكوادر المؤسسي (هذه الكوادر التي يقول عنها السيد حسن نصر الله نشأت تحت منبر الإمام الصدر وفي رعاية الامام الصدر) فاليوم كل ما نحن به وهذا الدفع باتجاه تحصيل المزيد من التعليم كان باكورته بالكم الهائل من المنح والدفعة الأولى من المنح التي أرسلها الامام الصدر إلى سوريا وإلى الجزائر والأردن وإلى أكثر من مكان وبالتالي هذا الاغتراب الذي ربطه الامام الصدر في مواطن أبائه وفي بلده وكان من أهم بل و أول القيادات التي تذهب إلى هذا الاغتراب وإلى إفريقيا وتعمل على تمتين علاقته بالوطن وتحسين علاقاته بالبلدان المضيفة . الامام الصدر شخصية متعددة الأبعاد، كان مؤسسات وليس مؤسسة فهو كان مؤسسات كاملة تتحرك وتتجسد بشخص رجل واحد.
أنا أعتقد نحن أمام شخصية لم تستنفذ دراستها حتى الآن، فمازال هناك كم كبير من الأبعاد في شخص الإمام الصدر وفي مقولاته ومفرداته. في ممارسته العملية بحاجة إلى بحاثة وإلى كتاب. اليوم قضية التعايش الإسلامي- المسيحي التي اعتبرها الامام الصدر قضية مركزية وليس في الاطار اللبناني فقط بل بإطار مصلحة العالم العربي، بل بإطار مصلحة الإسلام بذاته.
هذه المفردات فكرة الكيان ونهائية الوطن هذه مفردات جديدة على علم الكلام السياسي الإسلامي، كلها الامام الصدر أنشئ لها مكتبة من المفردات والموضوعات تستحق الانكباب عليها ودراستها لدى الباحثين والمتابعين.
الإمام الصدر أكبر بكثير من قضية عالم دين أو قائد مر بلحظة من اللحظات بجماعة من الجماعات وتحديداً الجماعة الشيعية. حفر اسمه وسوف يبقى إلى مدايات بعيدة وسوف ينظر إليه أب الحالة الشيعية وليس بالبعد المذهبي والمقيت وإنما بالبعد الإنفتاحي والمكمّل مع كل المكونات".
ويبقى مسك الحديث عن السيد موسى الصدر، أنه ذلك الفكر الحي فينا والذي يبعث فينا اشراقات الأمل، فهو الفكر القدوة الذي أرعب اسرائيل والطغاة في العالم، وسيبقى حي فينا لا يموت، فالسلام على موسى الصدر روحًا وفكرًا.
ولتأريخ فكر السيد موسى الصدر لا بد من استذكار الندوة التي نظمها كل من المنتدى الاعلام العربي، ومعهد الدراسات الدولية وذلك تحت عنوان: "قراءة في فكر السيد موسى الصدر"في مساء 30 أيلول 2020 بإدارة كلٌّ من الدكتور علي عز الدين ورئيسة تحرير موقع لبنان الحدث الأستاذة لينا وهب، والتي شارك فيها الحاج حسن قبلان عضو المجلس السياسي في حركة أمل بمداخلة قيمة، والتي أغناها الباحث والأستاذ الجامعي الدكتور حسان الزين بإضاءات من فكر السيد موسى الصدر كصرح إنساني عظيم، مجيباً عن عدد كبير من الأسئلة النوعية لنخبة من المفكرين والمثقفين،
فكر السيد موسى الصدر كما يشرحه الحاج حسن قبلان عضو المجلس السياسي في حركة أمل
إن الحديث عن السيد موسى الصدر هو الحديث عن الشخصية الأبرز في تاريخ لبنان المعاصر. فنحن نتكلم عن رجل استثنائي بكل ما تعنيه الكلمة من معنى إذ أنه فعلاً يصح وبموضوعية كاملة أن يؤرخ للطائفة الإسلامية الشيعية في لبنان ما قبل وما بعد موسى الصدر.
وكنت قد انكببت طويلاً بعمر مديد على الاطلاع على الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لشيعة لبنان في جبل عامل والبقاع وجبل لبنان قبل قدوم الصدر وأقمت مقارنة بالذي حصل بعد مجيئه إلى لبنان عام 1959 بعد ارتقاء العلامة الكبير السيد عبد الحسين شرف الدين إلى بارئه.
أولاً السيد موسى الصدر بحسب مقولة السيد محمد حسين فضل الله هو " أبو الحالة الشيعة في لبنان" على قاعدة أن السيد فضل الله هو "أبو الحالة الإسلامية"، نحن نتكلم عن عالم دين استطاع بفترة قياسية لم تتجاوز ال17 عاماً من السنين أن ينشئ معماراً تغييرياً وتحولاً بنيوياً واضحاً في الحيز الاجتماعي الذي تحرك به وفي الفضاء المذهبي والطائفي والديني والاجتماعي للجماعة الشيعية التي شاءت الأقدار أن تكون في البقاع والجنوب وجبل عامل وجبل لبنان.
خلال 1200 عام من تاريخ الشيعة اللبنانيين أو شيعة جبل عامل أو شيعة بلاد الشام، كما كان يقول العلامة الكبير الشيخ محمد مهدي شمس الدين أن الامام موسى الصدر أطلق أول حالة تنظيمية ينخرط فيها شيعة البقاع وجبل عامل والشمال وجبل لبنان في إطار مشروع سياسي ثقافي عقائدي مطلبي إصلاحي تغييري واحد إذ قل ما شهد تاريخ الشيعة اللبنانيين محطات اجتماع ولقاء، باستثناء بعض المحطات النادرة كتلك الفترات التي كان يذهب فيها آل حرفوش إلى جبل عامل في الأزمات لكي يقفوا بجانب العامليين في بعض المحطات والمواقف ولكن السياق العام كان أن الجغرافيا والشتات والفرقة هي التي كانت الحاكمة في العلاقات البينية بين كل هذا الشتات الشيعي فجاء الامام الصدر ووحد كل هؤلاء وجمعهم في مشروع واحد ولم يميز منطقة على أخرى ولم يعتبر ولم يهتم لقضية العدد والحضور السياسي والفائدة الانتخابية والنيابية وما شابه. كان في الكورة يتعامل مع نهران وبلاد جبيل ورشكيدة في البترون وقرى البقاع الغربي على السوية مع قرى جبل عامل وبعلبك الهرمل.
ثانياً أطلق الامام الصدر وعياً هوياتياً في هذا المجموع الشيعي الذي كان هائماً بين هويات متناثرة متنازعة متناقضة وبين مشاريع سياسية وإيديولوجية وعقائدية لطالما تخلى تالياً عنها أصحابها، كان بستاناً سائباً كل يعمل على مد اليد إليه ويأخذ منه ما يشاء. فأطلق الامام الصدر هذه الفكرة اللبنانية وعمّق هذا الانتماء اللبناني الكياني باعتبار لبنان وطن نهائي لجميع أبناءه، لبنان الكيان المنفتح على قضايا العالم العربي والأمة العربية والملتزم التزاماً واضحاً في القضية الفلسطينية. لكن ثبّت وأبّد ارتباط الشيعة اللبنانيين بهذا الوطن وهم منذ عام 1948 من الجنوب والبقاع من محمد زغيب شهيد المالكية وحتى كل الشهداء وقفت هذه الجماعة التي بعث فيها السيد الصدر هذه الديناميكية سداً منيعاً حماية للبنان (لبنان المصلحة والاجتماع والدور والوظيفة والرسالة) في مواجهة التنمير الصهيوني منذ عام 1948 وحتى اليوم. شكلت هذه الجماعة التي أهملها النظام السياسي في لبنان وقبله الفرنسي وقبله العثماني التركي المملوكي، هذه الجماعة التي أهملت حولها الامام إلى رأس الحربة في الدفاع عن لبنان في مواجهة كل التحديات.
هذا الامام العظيم الذي بعث هذا الكم من الوعي في الهوية والربط العقائدي في الإرث الكربلائي الحسيني وأخرج الجماعة الشيعية من فكرة التهميش والدونية والمظلومية التاريخية إلى واقع الفعل والمبادرة والتحفيز.
وأنا أستطيع أن أقول أنه أول عالم دين في الوسط الإسلامي الشيعي برمته قد سيّر النص الكربلائي والفكرة الكربلائية وأتى بها من متون الكتب والتاريخ وجعلها مادة تحريضية تحفيزية تغييرية في الواقع. وكل من جعل كربلاء والأفكار الكربلائية مادة في صياغة مشروع سياسي أتى بعد الامام موسى الصدر. هو أول من قال "دوري محدد من الله ومن أجدادي علي والحسين، هو الذي قال أمل إرثها في ثورتك يا وارث الأنبياء وهو الذي قال نحن أحفاد الحسين وورثة المسيح. الإمام الصدر أطلق كربلاء من عقال البكائية والفجائعية عندما قال أنه لا يعترف بالحسينيات التي لا تخرّج ثواراً وأبطالاً وجعل كربلاء بياناً سياسياً، كتاباً حزبياً، نضالياً، ثورياً. وهو الذي أكدّ على أننا نحن بحاجة إلى ثورة إرثها من ميراثنا من تاريخنا، هذا الربط بين شيعة لبنان وهذا العمق الكربلائي جعلهم ممتلئين مشبعين يشعرون بهذا البهاء بهاء الانتماء والزهو على قدم السوية مع كل المكونات.
ثالثاً بإطلاقه لهذه الحركة المطلبية الكبيرة وهي كانت حركة مطلبية مركبة بالموضوع الديني المذهبي أو الطائفي و الموضوع المناطقي لأنه اكتشف أن هذا الحرمان مركب. صحيح آنذاك كان جل هذا الحرمان يقع على كاهل الطائفة الشيعية ولكن أيضاً الإمام الصدر أيقن أن هناك مناطق محرومة بعكار وجبيل وإقليم الخروب ومناطق مسيحية أيضاً غير شيعية. اكتشف الامام الصدر أن هذا التناقض الاجتماعي والطبقي داخل لبنان سيعمل على تفجيره وهو أكد ذلك أيضاً حينما قال اعدلوا قبل أن تبحثوا عن وطنكم في المقابر أو مزابل التاريخ. اكتشف باكراً أن العدالة الاجتماعية هي عامل حاسم وثابت في استقرار لبنان.
رابعاً نظّر الامام الصدر لدور لبنان الحضاري باعتباره الساحة الوحيدة التي يجتمع فيها مسلمون ومسيحيون ويخرجون ويصنعون نظاماً سياسياً يديرون به شؤونهم على علاته وعلى وهنه وأزماته، لكن كانت بنظره تجربة تستحق الحماية والصيانة والعمل بشكل دائم على دفعها إلى الأمام وبالتالي إلى تطويرها.
الامام الصدر كان رؤيوياً واستراتيجياً في ملف الصراع مع العدو الإسرائيلي عندما نظّر باكراً بضرورة قيام مقاومة استباقية قبل أن تحتل إسرائيل أراضي جبل عامل وجنوب لبنان ويتشرد الجنوبيون كما الفلسطينيين، كان يعيش عقدة فلسطين وبالتالي قال أن لم أصبر حتى تحتل بلادي لكي أطلق مقاومة، فخلق ما يمكن تسميته بالمقاومة الاستباقية وكان سباقاً عبر هذا العقل الوقاد الشهيد الدكتور مصطفى شمران بتأسيس الخلايا الأولى والطليعية لأفواج المقاومة اللبنانية أمل وأرسى بالتالي أن اللبنانيون هم مسؤولون عن تحرير بلادهم وحفظها وصونها وليس عبر الالتحاق بهذا الجيش العربي أو ذاك أو هذا الفصيل الفلسطيني أو ذاك. كان يؤمن بأن قضية الحفاظ على الجنوب هي قضية أبناءه أولاً وهي قضية الوطن بكل مؤسساته ومفرداته وتشكيلاته.
الامام الصدر بإمكانيات جداً جداً ضعيفة وضئيلة عبر مجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الذي كان له الدور الحاسم والذي لا يناقش ولا يجادل في قيامه وتأسيسه، جعل من هذا المجلس منبراً لكل قضايا المحرومين والمظلومين في هذا العالم. وسريعاً استطاع أن يقيم شبكة هائلة من العلاقات الداخلية والإقليمية والدولية وسريعاً أصبح اسماً وعلماً في كل المنتديات الفكرية والدينية والثقافية (في الأزهر وفي الجزائر وفي المانيا الغربية آنذاك وفي فرنسا وبكستان مع المرحوم ذوالفقار علي بوتو، وفي مؤتمرات علماء الدين المناضلين من أجل الحرية). وهو الإمام الذي جعل من هذا المجلس ملجأً وكهفاً لحماية الثوار والمعارضين الإيرانيين على مختلف تشكبلاتهم. وهو الذي أرسى، كما يقول باتريك سيل في كتابه عن رئيس حافظ الأسد، المداميك الأولى للعلاقات الإيرانية- السورية وأمّن لكل فصائل المعارضة الإيرانية كل وسائل الحركة والحرية في غطاء رسمي وجوازات سفر سورية وغيرها الكثير. جذر العلاقات السورية- الإيرانية وضعه الامام السيد موسى الصدر ، الامام الذي كان يحمل هم العراق والمظلوميات التي كانت تقع على الشعب العراقي، وهو الذي كان يراسل الرئيس جمال عبد الناصر والولايات الأمم المتحدة وكل المواقع من أجل مظلومية الشعب العراقي. هو الذي ذهب إلى الفاتيكان من أجل حمل قضية الامام الخميني والمظلومية الواقعة عليه من قبل نظام الشاه. أعطى الإمام الصدر لهذه المجموعة الشيعية التي كانت على هامش الحدث الوطني والإقليمي والقومي بعد هائل باعتبارها طائفة فاعلة ذات جذور ذات مدايات وعلاقات في محيط أوسع.
اليوم كل ما نحن به بكل هذا الحضور السياسي بكل هذه المقاومة بتنويعاتها بأسمائها بالاسم الأبرز فيها بالتشكيل الأبرز فيها اليوم حزب الله وحركة أمل، كل هذا الجيل من الكوادر المؤسسي (هذه الكوادر التي يقول عنها السيد حسن نصر الله نشأت تحت منبر الإمام الصدر وفي رعاية الامام الصدر) فاليوم كل ما نحن به وهذا الدفع باتجاه تحصيل المزيد من التعليم كان باكورته بالكم الهائل من المنح والدفعة الأولى من المنح التي أرسلها الامام الصدر إلى سوريا وإلى الجزائر والأردن وإلى أكثر من مكان وبالتالي هذا الاغتراب الذي ربطه الامام الصدر في مواطن أبائه وفي بلده وكان من أهم بل و أول القيادات التي تذهب إلى هذا الاغتراب وإلى إفريقيا وتعمل على تمتين علاقته بالوطن وتحسين علاقاته بالبلدان المضيفة . الامام الصدر شخصية متعددة الأبعاد، كان مؤسسات وليس مؤسسة فهو كان مؤسسات كاملة تتحرك وتتجسد بشخص رجل واحد.
أنا أعتقد نحن أمام شخصية لم تستنفذ دراستها حتى الآن، فمازال هناك كم كبير من الأبعاد في شخص الإمام الصدر وفي مقولاته ومفرداته. في ممارسته العملية بحاجة إلى بحاثة وإلى كتاب. اليوم قضية التعايش الإسلامي- المسيحي التي اعتبرها الامام الصدر قضية مركزية وليس في الاطار اللبناني فقط بل بإطار مصلحة العالم العربي، بل بإطار مصلحة الإسلام بذاته.
هذه المفردات فكرة الكيان ونهائية الوطن هذه مفردات جديدة على علم الكلام السياسي الإسلامي، كلها الامام الصدر أنشئ لها مكتبة من المفردات والموضوعات تستحق الانكباب عليها ودراستها لدى الباحثين والمتابعين.
الإمام الصدر أكبر بكثير من قضية عالم دين أو قائد مر بلحظة من اللحظات بجماعة من الجماعات وتحديداً الجماعة الشيعية. حفر اسمه وسوف يبقى إلى مدايات بعيدة وسوف ينظر إليه أب الحالة الشيعية وليس بالبعد المذهبي والمقيت وإنما بالبعد الإنفتاحي والمكمّل مع كل المكونات".
ويبقى مسك الحديث عن السيد موسى الصدر، أنه ذلك الفكر الحي فينا والذي يبعث فينا اشراقات الأمل، فهو الفكر القدوة الذي أرعب اسرائيل والطغاة في العالم، وسيبقى حي فينا لا يموت، فالسلام على موسى الصدر روحًا وفكرًا.